حمار بربطة عنق بقلم:ذكرى الكشباطي

1

حمار بربطة عنق

بقلم:ذكرى الكشباطي

 حمار بربطة عنق
ها أنا أركض خلف أخي الأكبر، أركض وأنفي ينزّ بشكل مبالغ فيه والبرد يسلق أطرافي بضرواة.

المسافة تمدّدت فجأة واستطالت على غير العادة؛

فقدماي متعوّدتان على تسلّق هذه الشّعاب الوعرة وعبور هذه الدّروب كل يوم جمعة

حتى أحوز ببواقي الخضر التي تخلّفها عربات الباعة وأحملها إلى أمّي.

فما الذي جرى، حتى بدت ساحة السّوق بعيدة بهذا الشّكل إلى درجة أنّى خلت أنها لن تلوح لنا أبدا؟!
تبّا أنفي ينزّ وأذناي لا أكاد أحس بهما من شدة الصقيع!

رفعت عيني إلى أخي سعيد، كانت ندف الثلج تستقر على لحيته التّي نبتت وبدت واضحة جدّا، كان يدسّ يديه في جيبي قشّابية جدي التّي سرقها منه قبل أن نخرج، بينما كان الأخير يغط في نوم عميق..

كنت ألهث، وكان الدّخان الذي يخرج من فمي يلهيني عن وعورة الطريق، فأتعمّد أن أنفخ في الهواء لتتشكّل أمامي دوائر ضبابية اخترقها بأناملي كلّ مرّة، بينما كان سعيد ينبّهني بين الحين والآخر أن أتوقّى النّباتات الشوكية المغطاة بالثّلج وأن أعجّل السّير.

سألته وعيناي تتسلّقان السّماء وقد لاحظت أنها تدكن بشكل ينبئ عن يوم ماطرٍ:” لم لم نمتط الحمار يا سعيد؟ ، لقد تعبت والثلج يعيق سيرنا! “..

لم يجبني سعيد بل ظلّ صامتا وهو يجدّ في السير بملامح حادة وصارمة.

انحدرنا بعد قرابة السّاعة والنصف إلى الوهد الذّي يأخذنا إلى السّوق، وقد لاحت لنا ساحته محتشدة بالنّاس.

صاح أخي مغاضبا فجأة كمن اخترق حنجرته رصاصة:” قلت لك ابق بالمنزل، ها قد تأخرنا وما من شكّ أنّ كل هذه الحشود استولت على كل صناديق الإعانة، كنت متيقنا أنّك ستعطّلني ! “

تأفف بقوة، ثمّ أردف:” سامحك اللّه يا أمي، سامحك الله، لأنك أصريت على أن اصطحبه معي..”
نشجت أنفي في كمّ معطفي وقطّبت حاجبيّ اعتراضا على ما قاله ولم أتفوه بكلمة.
وصلنا الساحة، ولحسن الحظّ، أن شاحنات الإعانة لم تصل بعد، ما خفف غليل أخي سعيد.
كانت العيون تترصّد قدوم الشّاحنات بجوع شديد، وكانت الأعناق مشرئبة لا تتحرك يمنة ولا يسرة.

الفقر هنا يلفّ خيوطه على كل من هبّ ودبّ؛ فقر تراه في الوجوه الداكنة المغضّنة، في العيون المنطفئة، في الأظافر الخشنة المزرورقة، في الثّياب الرثّة والأجساد النحيلة….

انتظرنا قرابة النصف الساعة وقد أمسكت السّماء ندفها لتسمح لخيوط المطر أن تنهمر فوق رؤوسنا.
ورغم ذلك لم يتزحزح أحد من مكانه، ولم نتزحزح بدورنا.

 

أخيرا، لاحت شاحنات الإعانة من بعيد تمد أنوفها صوبنا، اهتزت القلوب حينها فرحا وتحمّس الجميع وقد أخذ الطمع يصبغ النفوس برائحته الكريهة ويحلّب الأفواه الجائعة ممنيّا إياهم باللحوم الطريّة والغلال الشّهية، والكلّ مزمع على أن يحوز على القدر الأكبر من الإعانات.

التفت إليّ أخي سعيد وقال والحماس يذكي شراراته بعينيه الغائرتين:”امسك بي ولا تغفل عنّي برهة!”
وماهي إلا ثوان، حتى وجدت نفسي أزاحم الناس، أتخلل الأجساد أبحث بينها عن رأس أخي سعيد وأتتبعه كظلّه، حتى رأيت كيسا أسود يهوي عليّ يتبعه صوت سعيد وهو يقول في لهوجة:” امسك به جيدا…”
حملت الكيس بين يديّ وقلبي يخفق بشدة، والأصوات من حولي تتعالى وتلهج بالصياح والشتم والصراخ…
كانت لحظات عصيبة، حمدت الله أنها لم تدم طويلا فسرعان ما أدبرت الشاحنات، مخلفة ورائها وجوها مستبشرة وأخرى مستنفرة وحانقة.

أجلت عيني أبحث عن سعيد، حتى لمحته يأتي صوبي، محملا بكيس وصندوق صغير من الكرتون، ومن خلفه سيدتان تمسكان بشعر بعضهما البعض وتصرّ كل واحدة منهما على على أنّ الكيس لها.
كانت العودة إلى المنزل شاقّة وصعبة، والمطر فوق رؤوسنا يهطل ويزيد من من انزلاقات الطريق.

شارفنا باب المنزل، أو باب “الحوش” كما تعودنا تسميته. فرأيت أختي “نعمة” تقفز فرحا بالأكياس التي جلبناها، سرعان ما لحقت بها أمّي وقد تهللت أساريرها، بينما ظهر جدّي من خلفها وقد بدت سورة الحنق تعلو محيّاه بسبب سرقة أخي لقشابيته.

كنت أدري أن أمي وأختي الصغرى نعمة، ستبتهجان بالإعانة،
فأخيرا ستجد أمي ما تدفئ به أجسادنا وأطراف أختي نعمة الطرية وتشبع به أمعائنا التى تشتاق إلى طعم اللحم منذ أشهر.

ما إن وصلنا، حتى شرع أخي في تفريغ الأكياس أمام الأعين المتعطشة- سوى من أعين جدي الذي لم يكف عن لكزه بعصاه، معاتبا إياه على فعلته.
فتح الكرتون أوّلا فإذا هو يحوي على أكياس من السباقتي والدقيق، وعلب السردين التي شارفت مدة صلاحيتها على الانتهاء، دون أن يعثر سعيد على أثر للحم الذي يمنّ نفسه به.

أمام العبوس الذي بدأ يتسلّق الوجوه، أفرغ سعيد الكيس الأوّل، فتهاوت منه جوارب مستعملة من كل شكل ولون.
ورغم الاستياء الذي علا وجه أمي إلا أنها قالت وهي تخفي حقيقة شعورها: “لا بأس بهذه الجوارب، إننا نحتاجها، فلربما يحوي الكيس الأخير، على معاطف وثيابا ثقيلة تقينا هذا البرد اللاذع”.
أفرغ سعيد الكيس الأخير أمام نظرات أمّي المنطفئة وقد تفاجأ الجميع بكمّ أربطة عنق مختلفة الألوان والأحجام وقد تداخل بعضها وتشابك”

راحت أختي نعمة تسحبها وتتسائل عن فائدتها بينما لم تمسك أمي نفسها عن الضحك فضحكت وهي تداري الفراغ الذي أحدثه تساقط نابيها بكفها بينما راحت نعمة تدور وتلف أربطة العنق حول خصرها وهي تضحك لضحك أمّي.

قام سعيد حينها حزينا، وهو ينزع القشابية المبتلة ويعطيها إلى جدي الذي لا يزال يبرق ويزبد معاتبا إياه، وقد ثقلت عليه نفسه، وشعر بمرارة تتكتل في حلقه ابتلّت لها عيناه.

فكم تمنى أن يفرح والدتي بعد كل التعب الذي تكبّدناه؟!

وها قد انقشع الشتاء وجرجر خلفه قساوته، وتناسى الجميع الحادثة ولم ينتفع أحد بكل ما حوته أكياس المعونة، غير حمارنا الذي اتخذت له أمي حبلا مزركشا من رابطات العنق وهي تقول بروح مرحة : من مثل حمارنا في أناقته؟! “

ليرد أخي سعيد بسخرية وهو منكبّ على دروسه ينجزها :” ليس حمارنا فحسب أنيق، فكم من حمار أنيق على رأس هذا البلد يا أمي، يرتدي ربطة عنق؟ ! “

القصة مستوحاة من الواقع

1 Comment
  1. Alamir Soliman says

    اسلوب وكلمات وسرد. اكتر من روعة.
    دايما بيعجبني اسلوب الكاتبة ذكرى الكشباطي، وبيعجبني تمكنها وقدرتها على اختيار الكلمات ومعانيها.
    روايتها عصا فضة، كانت ايضا رائعة.

Leave A Reply

Your email address will not be published.