البراديغم بين المفهوم والنظرية،

البراديغم بين المفهوم والنظرية،

0

البراديغم بين المفهوم والنظرية،

بقلم: أ.د. خالد عبدالقادر منصور التومي،

 

أولاً: التحديد اللغوي للبراديغم ..

ينقسم مصطلح البراديغم إلى شقين، فالأول “البرا” وتعني الشمول، والثاني “ديغم” تعني مثال أو نموذج، إذ ترجع لفظة “براديغم” إلى الأصل اليوناني “paradeigma” أي مثال ونموذج، وهو مشتق من لفظ “paradeiknunai” الذي يدل على فعل: أظهر وقارن أو شبه؛ فيكون البراديغم لغةً: هو النموذج القياسي أو المثال الكامل الذي ينبغي إتباعه، كما يُقال: الرياضيات هي براديغم العلوم، وحُوفظ على هذا الاستعمال اللغوي تقريبًا في علم اللغة،

إذ أُستعمل بدلالتين، وهما على النحو التالي سردهُ تباعًا:

 

الدلالة الأولى: مرتبطة بقواعد الصرف اللغوي: حيث إن البراديغم هو مجموع الصيغ الصرفية لجذر مُعين، كصيغ فَعَل ويفعل وفاعل ومفعول، ويقابله لفظ “عبارة” الدال على التركيب التعبيري.

 

الدلالة الثانية: مرتبطة بلسانيات “فردينان دو سوسور” الذي يُعتبر بمثابة الأب للمدرسة البنيوية في علم اللسانيات، كما عدّه كثير من الباحثين مؤسس علم اللغة الحديث، والذي قصد بالبراديغم: طائفة من العناصر ذات الجوانب المتشابهة.

 

ثاينًا: التحديد الاصطلاحي للبراديغم ..

كان “توماس كون” الذي أوضح فكرته في أن تطور العلم ليس دائمًا مُتدرجًا أو تراكميًا نحو الحقيقة، بل قد يمر بثورات بنيوية دورية يُسميها “تحول الباراديغم”، فهو أول من أستعمل هذا الاصطلاح في كتابه “بنية الثورات العلمية” الذي نشره عام 1962م، وألحق به حاشية تنقيحية عام 1969م، ليدل به على الأُطر المفاهمية ورؤية العالم عند جماعات علمية متعددة، وتبعًا له؛ يدل البراديغم على مجموع متماسك من نماذج ومفاهيم ومعارف وفرضيات وقيم مترابطة بدقة.

ويرى توماس بأن هذا المفهوم يُعتبر أساسيًا في فهم خاصية دقيقة في تاريخ العلوم، ألا وهي إستبدال إطار مفاهيمي بآخر عند حدوث ثورة علمية، علمًا بأن توماس أستعمل مصطلحات قريبة منه مثل “العلم النموذجي أو العلم السوي أو المعتاد أو القياسي، والذي يعني به “البحث الملتزم بحدود وإطار براديغم مُعترف به بين الباحثين المتخصصين في مجال علم بذاته” أو بعبارة أخرى: “علم قياسي في هذه الدراسة تعني: البحث الذي رسخ بنيانه على إنجاز أو أكثر من إنجازات الماضي العلمية، وهي إنجازات يعترف مجتمع علمي محدد، ولفترة زمنية، بأنها تشكل الأساس لممارساته العلمية مستقبلاً“.

كما أن لـ “لبراديغم” تعريفات عديدة تتجاوز العشرين تعريفًا تقريبًا، وأهمها أن يُقال: البراديغم هو هيكل يحدد المشاكل والمناهج المشروعة، فيعطي بذلك فعالية كبيرة للبحث؛ بيد أنها اللغة المشتركة التي تُيسر انتشار الأعمال وتوجه البحوث العلمية.

 

ثالثًا: المجوعات المكونة للبراديغم ..

يتكون البراديغم من أربعة مجموعات أساسية، وهم على ما نأتي بيانه تباعًا:

 

المجموعة الأولى: تتألف من “القوانين والفرضيات والنظريات العلمية”، ومثال ذلك: قوانين الحركة عند نيوتن تُمثل جزءً من البراديغم النيوتوني.

 

المجموعة الثانية: تتألف من “المبادئ الميتافيزيقية” ومثال ذلك: فكرة الخلق المستمر في فيزياء ديكارت، وأيضًا فرضية الأثير في فيزياء نيوتن.

 

المجموعة الثالثة: تتألف من “التعليمات الديداكتيكية والمنهجية التي توجه العمل العلمي”، ومثال ذلك: البراديغم النيوتوني؛ يُلزم الطالب الباحث بأن تكون نتائج بحثه مطابقة للطبيعة، فتُصاغ المناهج العلمية بخطواتها وأُسسها على هذا الأساس، ويتم عرضها في الكراريس المخصصة لمقررات الدراسة والتكوين العلمي، وبمنعى أخر؛ لو أخذنا أهمية الديداكتيك في العملية التعليمية مثلاً؛ نجدها تتجلى في تمكينه المدرسين من فهم طبيعة أدوارهم، وتفعيل عملية تدخلهم فيما يتعلق بتشخيص الصعوبات التي تستدعي العلاجات الضرورية، وذلك من أجل تصحيح مختلف وضعيات التعلم وتقويمها، وهي المعالجة التي تتطلب تحيين أنماط التجديد والتطوير والتغيير في جوهر العملية التعليمية، والتي يُصبح بموجبها التركيز مُنصبًا على المتعلم بدل المدرس والمادة التعليمية من جهة، ومن جهة أخرى الإنتقال من بيداغوجيا التلقين والأهداف نحو بيداغوجيا الكفايات، كما أن الديداكتيك يُسهل عملية النقل الديداكتيكي السليم للمعارف والقيم والمهارات والكفايات المستهدفة إلى أنشطة مدروسة في وضعيات ديداكتيكية خاصة، هذا بالإضافة إلى ضبط عملية صياغة البطاقات والشبكات المؤطرة لأنشطة التدريس، والتي تساعد على التحكم في مقاطعهِ ومدخلاتهِ وعملياتهِ ومخرجاتهِ. وبالإضافة إلى التحيين المتواصل لوسائل العمل الديداكتيكي، هكذا كان إلزامًا الوقوف عند مفهوم الديداكتيك.

 

المجموعة الرابعة: تتألف من “التقنيات لتطوير النظرية العلمية” التي تبنتها الجماعة العلمية، ومثال ذلك: تقنيات الرصد في علم الفلك، ومنها تطوير تقنيات الرصد الفلكي لتحسين دقة قياس المسافات والحركة والزوايا للأجرام السماوية، كـ تحليل حركة الكواكب والأجرام السماوية، وتصميم وتحليل الأقمار الصناعية، وتطوير التقنيات الفضائية، واكتشاف الحلقات الجديدة حول الكواكب الغازية في المجموعة الشمسية، وغيرها من التقنيات المستخدمة في علم الفلك.

 

لهذا .. كان مفهوم البراديغم ضروريًا لتفسير تلك الخاصية الدقيقة في تاريخ العلوم، والمتمثلة في استبدال إطار مفاهيمي بآخر عند حدوث “ثورة علمية”، إذ أن مفهوم البراديغم لا ينفصل عن مفاهيم التغير والثورة أو ما يُعرف بتحول البراديغم.

 

رابعًا: تحولات البراديغم ..

تحول البراديغم هو الثورة العلمية، بيد أنه يُعد الثورة في النمط العلمي بشكل أدق، وتحدث الثورة العلمية عند ما يواجه العلماء مشاكلاً لا يمكن حلها حسب هذا النمط السائد عالميًا، ولهذا يجب حل هذه المشاكل، وتجاوز هذا النمط بالإضافة إلى تكوين نظرية جديدة، إذ أن البرادبغم لا يعني هذه النظرية الجديدة فحسب، بل هو رؤية للعالم، والتي تحتوي على هذه النظرية، وكل المعاني المتضمنة داخل هذه الرؤيا حسب فكرة “توماس كون”، على أن الهدف من البراديغم هو تفسير عملية ونتيجة التغيير الذي يحدث ضمن المقدمات، والفرضيات، الأساسية لنظرية لها القيادة للعلم في مرحلة محددة من الزمن، بمعنى أن كل براديغم يحتوي على مشاكل معينة، يتعامل معها العلماء على أنها حد أدنى ومقبول من الخطأ، ويتم تجاهلها ولا يُلتفت إليها، وهذا خلاف أساسي يُعارض فيه “توماس كون” مبدأ التخطئة لـ “كارل بوبر” الذي يعتبر امكانية الخطأ هو أساس ومحور لأي نظرية علمية، والذي نُشر في صورة مختصرة بعنوان “منطق البحث” وفي طبعة كاملة بعنوان: “المشكلتان الرئيسيتان في النظرية المعرفية“.

 

إذ يحل مفهموم تحول البراديغم إلى تجديد عام في المعارف الأساسية وثورة شاملة في المفاهيم، وذلك من خلال تحول إنجازات علمية في تاريخ العلم إلى براديغمات يتطلب تميزها بخاصيتين، وهما على النحو التالي سرده تباعًا:

 

الأول: أن تكون عظيمة الشأن وغير مسبوقة.

الثاني: أن تكون مفتوحة رحبة تفتح الباب أمام جميع أنواع المشكلات لكي يتولى حلها المشتغلون بالعلم بمفهومه الجديد.

 

وهذا من خلال اعتقاد “توماس كون” أنه خلال مجرى النشاط العلمي العادي يشتغل الباحثون ضمن نفس البراديغم، أو ضمن نفس تقاليد العلم السوي، فتمضي أنماط التواصل والاشتغال العلمي دون أي عائق، إلى أن تبرز بعض الأمور الشاذة، أو تقترح نظرية جديدة أو نموذج جديد فتحدث أزمة في أُسس ذلك العلم السوي لعجزه عن تفسير تلك الأمور الشاذة. فتتحول النماذج المقترحة الجديدة إلى علم سوي جديد، فهذه الجدة تلزم الباحثين بفهم المفاهيم التقليدية بطريقة مختلفة، وإحلال فرضيات جديدة محل القديمة. وهنا تبرز المعادلة التي رسمها “توماس كون” لفهم مجرى العلم،وهي

“ما قبل العلم + العلم + الأزمة + ثورة علمية + علم سوي”.

 

خامسًا: تطور مفهوم البراديغم وأنماط استعماله في العلوم الأخرى ..

غالبًا ما أصطلح مفهوم البراديغم في اللغة العربية عليه بلفظة “أنموذج أو نموذج” وهذا ما يُحيلنا إلى تبني فكرة تفترض أن هناك ظاهرة ننوي تفسيرها، فعندما تتخذ النظرية شكل مجموعة من الاقتراحات التي يمكن أن نستنتج منها بطريقة آلية مجموعة من النتائج المرتبطة بشكل مباشر بالظاهرة المدروسة، نقول إننا إزاء نموذج ظاهرة كذا، فنستعمل النماذج سدًا للنقص في المعلومات، وهنا يكشف البراديغم ذلك النموذج التصوري، الذي يُوظف لدراسة ظاهرة ما، إذ هو توليف نظري ومحاولة تقديم تفسير، وقد يصعب لو أبقينا على نظرية بحد ذاتها لمعالجته.

 

ولهذا نجد كلمة “أنموذج أو نموذج” الكلمة المقابلة للبراديغم، والتي تعني بحسب معجم “جميل صليبا” مثال الشيء، ويُطلق على المعاني المتصورة، وبخاصة المثل الأفلاطونية القائمة بذاتها، والنموذج أيضًا هو المثال الفني الذي تُحدثه العلة الفاعلة معلولها على صورته، إذ يُمثل النموذج هنا: مثال أو مقابل لصورة شيء ما أو إرتداد لها كقولنا “جسم وخياله” ويُقدم “جميل صليبا” مفهوم النموذج في تصور “أفلاطون” بإعتباره المعاني المثالية المقابلة للتجسيد المادي.

 

وقد شاع استعمال هذا المصطلح بعد “توماس كون” وقفز من مجال تاريخ العلوم إلى مجالات عديدة، كـ البرمجة العصبية اللغوية، وحملت عشرات الكتب باللغات العديدة عناوين تتضمن لفظ البراديغم، وصارت غالبًا ما تتداوله بمعنى “نموذج”، أو “طريقة في رؤية الأمور”، لا بالمعنى الاصطلاحي الدقيق الذي وضعه “توماس كون”، وصار تحول البراديغم يعني: تحولا في طريقة رؤية الأمور، وذهب الناس في تفسير هذا المعنى الجديد إلى مذاهب شتى،

ومنها ما يلي سرده تباعًا:

 

فقد طور “إيمر لاكاتوس” مكونات مفهوم البراديغم عند “توماس كون” عبر اصطلاح “برنامج البحث“.

وأما عن “إدغار موران” يقول بأننا اليوم في بداية تكوين براديغم للتعقد هو نفسه مرحلة ضرورية لتكوين علم البراديغم الذي لا يهتم بالمهمة الفردية لمفكر ما، ولكن بكتاب تاريخي لتجمع الأفكار.

 

وقد استعمل المصطلح في العلوم الاجتماعية بمعنيين؛ الأول: مجموع الخبرات والاعتقادات والقيم التي تؤثر على طريقة الفرد في إدراك الواقع والتصرف تبعًا لهذا الإدراك، والثاني: شبكة القراءة التي تسمح بتفسير المعطيات بواسطة أدواتها النظرية الخاصة .. بهذا المعنى نتحدث عن براديغم “صراع الطبقات” عند “كارل ماركس”، وبراديغم “رأس المال الاجتماعي” عند “بيير بورديو“.

 

كما استعمل البراديغم في ميدان الاقتصاد؛ فتحدث “كارلوتا بيريز” و”كريستوفر فيمان” عن البراديغمات التقنية الاقتصادية ليُفسرا تتابع الأدوار الاقتصادية الطويلة،

 

أيضًا دخل البراديغم إلى مجال المقاولات في العقد التاسع من القرن الماضي، إذ تم ربطه بالفعل لا بالنظر فقط، ليُبين فعاليتهُ في سوق العمل ومستقبله، مثل “جويل باركر” وفيه يُبين أهمية خلق براديغم جديد في نجاح الشركات الكبرى أو تراجعها.

 

إلا أن التحول الأخطر الذي حدث للمفهوم هو القول: بأن كل ما يكوّن البراديغم يتميز بالنسبية والذاتية، وهذا التحول يجعل الحديث عن تاريخ العلوم والثورات العلمية غير ذي قيمة، لذلك حريٌ بنا أن نعود إلى ميزات أهم للبراديغم، ومن أهمها الآتي سردهُ تباعًا:

1- أنه يُعتبر أداةً إجرائية لتفسير تاريخ العلم ومدارسه، ومن شأن هذه الأداة أن تحد من النـزوع إلى الصراع بين المدارس العلمية داخل الحقل المعرفي الواحد؛ فجميعها تمتلك نمطًا فاعلاً من الممارسة العلمية.

 

2- أنه يُثبت الطابع المتفاعل والتكاملي للمعارف العلمية ضمن سياق تداولي محدد، ولا يُنظر بأهكومة إلى الإلتزام بالتقاليد العلمية، بل يُعتبر هذا الإلتزام شرطًا لتطور العلم، هذا نظرًا للطابع المنفتح للبراديغمات العلمية.

 

3- أنه يُقر بالخصوصية الثقافية للبحث العلمي، رغم كونية انشغالاته، بيد أن البراديغم العلمي مرتبط بالجماعة العلمية، بل بالمجتمع العلمي الذي يحمله، لذلك فهو يحمل القيم الثقافية للمجتمع العلمي الذي يحمله، مثلما يحمل الخصائص الإبستيمية للعقل العلمي الذي يتداوله.

ختامًا .. إن اشتغال العقل حين اختلاف العقول من شأنه أن يُحدث نمطًا يحتاج إلى البراديغم، الذي لعب دورًا كبيرًا ومؤثرًا في فلسفة العلم للقرن العشرين على وجه التحديد، ما يجعل دراسته أمرًا ذا أهمية، وهو ما يدفعنا إلى عقد مقارنة بينه وبين النظرية، بالرغم من وجود بعضًا من أوجه التشابه، أو حتى تقارب بينهما، من حيث اهتمام كل منهما بمشكلات المعرفة ونموها، ومن ثم، العلم وأُطر تطوره، غير أن هذا التقارب أو الالتقاء يبقى عامًا، لأننا عندما ننظر إلى التفاصيل وفي العمق، نجد أن الاختلاف بينهما كبير، وليس أدل على ذلك، من أن “كارل بوبر” يعتمد في تمييزه للعلم معيارًا يتمثل في القابلية للتكذيب، فضلاً عن معالجته للمعرفة العلمية من منظور منطقي، بينما يجعل “توماس كون” من نشاط حل الألغاز معيارًا للعلم، ويتخذ من التاريخ خلفية أساسية في معالجته وتحليله للعلم.

 

هكذا يكون البراديغم بأنه: رؤية للعالم تخص زمن مُعين، ومن داخله توجد نظريات علمية تفكر من خلاله، وفي حدوده، وهو نمط من التفكير ليس مطلقًا أوصالحًا لكل زمن ومكان، بل يعمه التقادم أحيانًا، ويضل صالحًا إلى أن تظهر الأزمة في العلم، فيتحول البراديغم إلى ثورة علمية ليُصبح العلم سويًا من جديد.

Leave A Reply

Your email address will not be published.