أهمية الثقافة في رفد المجتمعات ” بقلم / أ.د خالد عبدالقادر  منصور التومي

0

أهمية الثقافة في رفد المجتمعات ” بقلم / أ.د خالد عبدالقادر 


الثقافة في اللغة .. كما جاء في معجم اللغة العربية المعاصر بأنها؛ مصدر الفعل ثَقُفَ، وهي العلوم والمعارف التي يدركها الفرد، ومجموع ما توصلت إليه أُمةً أو بلد في مختلف الحقول من أدب وفكر وعلم وفن وصناعة بهدف استنارة الذهن،

 

أما في الاصطلاح .. فهي الرُقي في الأفكار النظرية، ويتمثل ذلك الرقي في القانون والفنون والسياسة والتاريخ والأخلاق والسلوك، إلا أن المقصود من مصطلح الثقافة أنه؛ العلم الذي يبحث كليات الدين في مختلف شؤون الحياة، فإذا تم وصف دين محدد فذلك؛ يعني الاختصاص بكليات ذلك الدين .. مثلاً .. الثقافة الإسلامية تعني علم كليات الإسلام في نُظم الحياة كُلِها،

 

وأما عن الثقافة ضمن منظور الفلاسفة تُعرّف بأنها تهذيب وصقل النفس البشرية، وهي مجموعة من السلوكيات التي يتم اتباعها لتقويم سلوك الأفراد والمجتمعات، وذلك عن طريق العقائد والثقافات المختلفة التي تهدف إلى تقويم وضبط السلوك، ويتجلى المعنى الحقيقي للثقافة في الاعتقادات والأفكار المتبعة من قبل الأفراد، هذا بالإضافة إلى سرعة البديهة في اتخاذ القرارات الفردية اللحظية، وفي تعبير الفرد عن نفسه بطريقةٍ سليمة، وأيضًا في المشاركة في الحديث واحترامِ الرأي الآخر،

 

إلا أن أقدم التعريفات للثقافة وأكثرها شيوعًا ذاك التعريف الذي وضعه .. إدوارد تايلور .. الذي يُفيد بأن الثقافة؛ هي ذلك الكل المُركب الذي يشتمل على المعرفة والعقائد والفن والأخلاق والقانون والعادات وغيرها من القدرات التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوًا فعالاً في المجتمع،

 

كما عرّفها عالم الاجتماع الحديث .. روبرت بيرستيد .. بقوله؛ إنّ الثقافة هي ذلك الكل المُركب الذي يتألف من كل ما نُفكر فيه أو نقوم بعمله أو نمتلكه كأعضاء فاعلين في المجتمع،

 

وفي ذات إطار هذا المفهوم يرى .. جيمس سبرادلي .. أن ثقافة المجتمع تتكوّن من كل ما يجب على الفرد أن يعرفه أو يعتقده، بحيث يعمل بطريقة يقبلها أعضاء المجتمع الأخرين، وبهذا فإن الثقافة ليست ظاهرة مادية فحسب .. أي بمعنى .. أنها لا تتكون من الأشياء أو الناس أو السلوك أو الانفعالات فقط، وإنما هي تنظيم لهذه الأشياء في شخصيّة الإنسان، إذ هي ما يوجد في عقول الناس من أشكال لهذه الأشياء،

 

وأما عن الثقافة من وجهها الذاتي؛ فهي ثقافة العقل، ومن وجهها الموضوعي؛ فهي مجموعة العادات والأوضاع الاجتماعية والآثار الفكرية والأساليب الفنية والأدبية والطرائق العلمية والتقنية، وأنماط التفكير والإحساس، والقيم الذائعة في مجتمع معين؛ فالثقافة هي طريق حياة الناس وكل ما يملكون ويتداولونه اجتماعيًا وبيولوجيًا،

 

وأحدث ما ورد في مفهوم للثقافة هو ما جاء في التعريف الذي اتفق عليه في إعلان مكسيكو عام 1982، والذي ينصّ على أنّ الثقافة بمعناها الواسع يمكن النظر إليها على أنها جميع السمات الروحية والمادية والعاطفية التي تُميز مجتمعًا بعينه أو فئة اجتماعية بعينها، وهي تشمل الفنون والآداب وطُرق الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونُظم القيم والمعتقدات والتقاليد،

 

كما يعتقد مُعظم علماء الأنثروبولوجيا أن الحضارة ما هي إلا مجرد نوع خاص من الثقافة .. أي بمعنى .. أنها شكل مُعقد أو راقٍ من أشكال الثقافة، ولذلك لم يعتمدوا قط ذاك التمييز الذي وضعه علماء الاجتماع بين الثقافة والحضارة؛ فمن المعروف أن بعض علماء الاجتماع يميزون بين الحضارة بوصفها المجموع الإجمالي للوسائل البشرية وبين الثقافة بوصفها المجموع الإجمالي للغايات البشرية،

 

عليه .. وتأسيسًا لِما قد سلف ذكره؛ فقد اعتمد كثير من الباحثين في دراسة الأنثروبولوجيا الثقافية (النفسية والاجتماعية) على ثلاثة مفاهيم أساسية، وهي:

1. التحيزات الثقافية .. وتشمل القيم والمعتقدات المشتركة بين الناس.

2. العلاقات الاجتماعية .. وتشمل العلاقات الشخصية التي تربط الناس بعضهم ببعض.

3. أنماط أساليب الحياة .. التي تُعد الناتج الكُلي المُركب من التحيزات الثقافية والعلاقات الاجتماعية.

 

بهذا فإن الثقافة تهدي الإنسان إلى القيم؛ حيث يمارس الاختيار ويُعبر عن نفسه بالطريقة التي يرغبها، وبالتالي يتعرف إلى ذاته ويُعيد النظر في إنجازاته وسلوكياته، وعلى الرغم من ذلك، فإن أية ثقافة لا تؤلف نظامًا مُغلقًا أو قوالب جامدة يجب أن يتطابق معها سلوك أعضاء المجتمع جميعهم،

 

هكذا يمكن القول .. إن الثقافة في إطارها العام ليست إلا مفهومًا مجردًا يستخدم في الدراسات الأنثروبولوجيا للتعميم الثقافي، وأن ضرورة الثقافة لفهم الأحداث في العالم البشري، والتنبؤ بإمكانية وجودها أو وقوعها؛ حيث لا تقل أهمية عن ضرورة استخدام مبدأ الجاذبية لفهم أحداث العالم الطبيعي وإمكانية التنبؤ بها.

 

أولاً: ظهور مفهوم الثقافة وتطوره ..

ظهر مفهوم الثقافة بدايةً في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر في أوروبا؛ بهدف تحسين مستوى الأفراد وإصلاحهم؛ ثم تطور المفهوم إلى تحسين وتعديل مهارات الإنسان الإيجابية، وذلك من خلال التربية والتعليم، وفي منتصف القرن التاسع عشر أصبح مفهوم الثقافة يشير إلى قدرة الإنسان البشرية على مستوى العالم أجمع،

 

وفي سبعينيات القرن التاسع عشر قدم علماء الأنثروبولوجيا أكثر من تعريف لمفهوم الثقافة، وأجمعوا في المحصلة على أنها تتضمن المعرفة والمعتقدات والأخلاق والقانون والعادات والإمكانيات الاجتماعية وأية طبائع اكتسبها الفرد من المجتمع؛ ثم تمت تحسينات جديدة على مفهوم الثقافة إلى أن توصل العلماء إلى أنها سلوك تعليمي يتناقض مع السلوك الموهوب من التراث، وفي القرن العشرين أصبح مفهومًا أساسيًا في علم الأنثروبولوجيا؛ حيث حظي مفهوم الثقافة بمكانةٍ كبيرةٍ في الأدب الأوروبي في ذلك الوقت، وما يزال هذا المفهوم في تطور مستمر ويأخذ أبعادًا جديدة لم تَكن موجودةً من قبل؛ حيث كان الشاعر إليوت من أشهر من أهتم بمفهوم الثقافة في القرن العشرين، وقد وضع شرطين لتحقيق الثقافة، وهما:

1. البناء العضوي .. يساعد على الانتقال المتوارث للثقافة داخل مجتمع محدد.

2. القابلية للتحليل .. حيث يجب أنْ تكون الثقافة قابلةً للتحلل إلى ثقافات محلية، والمقصود بذلك هو البُعد الإقليمي للثقافة.

 

ثانيًا: الإرتقاء في الثقافة ..

إذ يكون مفهومًا آخر للثقافة يُشير إلى دماثة الخُلق، كما أنه يُشير أيضًا إلى أفضل ما توصل إليه البشر من الاعتقادات وطرائق التفكير.. أيضًا الثقافة تهدف إلى تحقيق الكمال عن طريق التعرف على أفضل ما تم التوصل إليه من أمور مُهمة على مستوى العالَم فكرًا و قولاً، وذلك يكون بالآتي ذكره تباعًا:

1. تنمية النواحي الفكرية والجمالية والروحية.

2. التعبير عن طريقة معيشة الشعوب أو المجموعات خلال فترةٍ من الفترات.

3. جميع الأعمال والممارسات الخاصة بالنشاط الفني والفكري.

 

ثالثًا: الثقافة والمجتمع في علم الاجتماع ..

يُعتبر مفهوم الثقافة من أكثر المفاهيم جدلية بين علماء الاجتماع؛ حيث وضع العلماء تعريفات متعددة لمفهوم الثقافة، وكان أهم ما ترتكز عليه هذه التعريفات أنّ الثقافة هي محصلة القوانين والأعراف التي تحكم مجتمع مُعين، ومنها: العادات والتقاليد والفنون والمعايير الاجتماعية والموروث الثقافي المادي، ولعل أهم ما يُميز ثقافة مجتمع ما .. هو .. أنها تنتقل من جيل إلى جيل؛ هذا ليس بالمفهوم البيولوجي وإنما بالتلقين والتربية من خلال المؤسسات المجتمعية التي يتعرض لها الفرد منذ ولادته .. كالأسرة والمدارس والجامعات والمساجد،

 

أما المجتمع .. فيُمكن القول بأنه مجموعة من الناس تعيش على مساحة جغرافية مُحددة تجمع بينهم عوامل مشتركة كالثقافة أو الدين، ولهم أهداف ومصالح مشتركة، ذلك لأن المجتمع يتكون بشكل عام من شرائح اجتماعية متعددة تعتمد على التقسيم الطبقي أو الديني أو الجنسي والعديد من التقسيمات الأخرى .. إلا أن هذا لا ينفي مصالحهم و تطلعاتهم المشتركة.

 

رابعًا: العلاقة بين الثقافة والمجتمع في علم الاجتماع ..

من التعريفات السابق ذكرها للثقافة .. نستخلص مدى صعوبة الفصل بين الثقافة والمجتمع؛ إذ إنهما متكاملان .. فلا وجود للثقافة من الأصل لولا وجود مجتمعات تتبناها، ولا وجود لمجتمعات دون ثقافة تُنظمها؛ إذ إنها تتحول إلى غابة، وأبسط مثال على ذلك اللغة .. حيث تُعتبر اللغة المُكون الأول للمجتمعات؛ بل الموروث الثقافي الأهم لأي مجتمع، ولولا وجود اللغة لانعدمت أهم وسيلة اتصال بين الناس في المجتمع، ولذلك فإن أي محاولات للفصل بين المفهومين ستذهب سُدى .. كما هو حال الإنسان إذ يتأثر بعوامل خارجية؛ كذلك أيضًا الثقافة والمجتمع تتعرضان اليوم للعديد من التحديات، ولعل أبرز التحديات هو تحدي العولمة؛ الأمر الذي أفقد المجتمعات خصوصياتها الثقافية، حيث بدا العالم كقرية صغيرة مفتوحة على بعضها، مما جعل الكون يبدو كأنه ثقافةً واحدة، وبالتالي شعور الإنسان نفسه في حالة اغتراب عن مجتمعه؛ فمن ناحية يخضع لمنظومة ثقافية واجتماعية على أرض الواقع، ومنظومة ثقافية واجتماعية مختلفة على وسائل التواصل الاجتماعي من ناحيةً أخرى، ومن هنا يأتي دور كل دولة في تحديد ما يتناسب مع ثقافتها ومعاييرها وأخلاقياتها لتعمل متكاتفة للتصدي لكل ما هو دخيل عليها ولا يناسبها حفاظًا منها على أمنها القومي .. دون التعرض لحقوق المواطن المتعلقة بخصوصياته وحياته.

 

خامسًا: أنواع الثقافة ..

1. الثقافة العامة .. هي جُملةً من الآداب والفنون والعلوم في الإطار العام الخاص بها.

2. الثقافة الوطنية .. هي كل ما يرتبط بحضارة الوطن ويُميزها عن غيرها من فن وأدب وعلوم وعادات وتقاليد.

3. الثقافة الأساسية .. هي مجموع الصفات الثقافية المتواجدة في زمان ومكان مُعينين.

4. الثقافة المهنية .. هي الثقافة التي يهتم بها من هم على درجةٍ عاليةٍ من التمدن أو التعليم.

5. الثقافة الشعبية .. هي التي تُميِز شعبًا عن غيره بامتثالها لعادات وتقاليد وأشكال تنظيمية خاصة بها.

6. الثقافة المضادة .. هي التي تُعبر عن اتجاه ثقافي يحاول أن يحل محل الثقافة التقليدية المألوفة.

 

سادسًا: خصائص الثقافة ..

عادةً ما يحصل الفرد على الثقافة من المجتمع كونه فردًا منه؛ حيث إن العيش في المجتمع من دون العلاقات الاجتماعية والتواصل وتبادل الخبرات سيكون مستحيلاً .. وبهذا فإن الثقافة حقل شامل ومُعقد؛ إذ هي تشمل مثلاً أسماء المقابر المتعارف عليها، وأسماء الآلات والمحركات والحركات الاجتماعية مثل المصافحة باليد أو الإيماءةِ باليد من بعيد،

 

استنتاج .. الثقافة مُكتسبة وليست فطرية؛ بل يتعلمها الأفراد بانتقالها من جيل إلى جيل؛ كما أنها تراكُمية؛ حيث إن عناصر الثقافة تتراكم بانتقالها وتوارثها بين الأجيال،

 

الثقافة تشتمل على العناصر المادية والمعنوية، وترتبط هذه العناصر مع بعضها البعض بشكل عضوي .. مثلاً .. النظام السياسي يتأثر بالنظام الاقتصادي وبالعكس، ويتأثر النِظام التعليمي بالنظامين السابقين .. كما أن العادات والتقاليد تؤثر في أنظِمة الأسرة مثل الزواج والاحترام المتبادل بين الكبير والصغير، وأي تغير في أحد هذه الأنظمة يتبعه تغير في أسلوب المعيشة،

 

بهذا فإن عناصر الثقافة تنتقل بالاحتكاك بين الأفراد والمجتمعات؛ بحيث يؤثر المجتمع ذو الثقافة الأقوى والأفضل على المجتمعات الأخرى.

 

سابعًا: فوائد العمل على ترسيخ مفهوم الثقافة لدى المجتمع ..

1. تهيئة العيش الكريم للأفراد مع إكسابهم الشعور بالوحدة المتماسكة.

2. إشباع حاجات الأفراد البيولوجية من خلال إمدادهم بأنماط سلوكية مشتركة.

3. إتاحة سُبل توطيد الأواصر والتعاون بينهم، والقدرة على التأقلم مع المواقف التي تواجههم في حياتهم.

4. تسهيل سُبل وسائل التفاعل والتواصل بين الأفراد.

5. الحد من أسباب الصراع أو الاضطراب.

6. يُدفع بالفرد إلى تأدية الدور التربوي المُناط به.

7. خلق حلول مناسبة للمشكلات التي تشكل عائقًا في وجه الأفراد.

 

أخيرًا .. لا يمكن إنكار دور الثقافة والمثقفين في بناء وتطوير الوعي العام لدى المجتمعات، ولكن في نفس الوقت لا يجب تحميلهم أكثر مما يحتملون؛ حيث أن الجهود الرامية إلى التقدم هي جهود جماعية يحمل مسؤوليتها المثقف والسياسي والتاجر، هذا بالإضافة إلى العمال وأرباب العمل، وكذلك كل أفراد المجتمع .. لتأتي المنتجات الثقافية كتعبير عن تلك النهضة التي أحدثها المجتمع في بنيته، بيد أن الثقافة تُعد أحد أركان الحضارة؛ إذ تُشكل الركن المعنوي فيها، وتشمل كافة الجوانب غير المادية والمتمثلة في العقيدة والقيم والأفكار والعادات والتّقاليد والأعراف والأخلاق والأذواق واللغة، وغيرها من الجوانب الأخرى التي تختص بها أمّة مُعينة عن غيرها من الأمم، وتظل الثقافة على الدوام تمد شخصية كل أمة بما يُميزها، ويمنحها في الوقت نفسه القوّة والبقاء والاستمرارية،

 

أما الجوانب المادية للثقافة هي كل شيءٍ يساهم في بناء الحضارة؛ كالمباني والمنشآت الصناعية والتجارية ووسائل النقل والمواصلات والمنازل وغيرها من الأشياء الأخرى التي يستعملها الإنسان في حياته؛ كما أن الثقافة تتميز بالعمومية؛ فهي ملك لجميع البشر، لذلك تُشكل الثقافة روح الحضارة، بينما تُشكل الجوانب المادية لها مادتها الطبيعية.

 

ختامًا .. إننا لو قصدنا بكلمة ثقافة الحصول على مستوى مُعين من التأهيل العلمي فسنجد شريحة عريضة من المجتمع يمكن أن توافق القصد. أما لو قصدنا بالثقافة معرفة شيء عن كل شيء، وكل شيء عن شيء؛ فإن الدائرة ستضيق كثيرًا،

 

لكن لو أدرنا بكلمة ثقافة القدرة على التوفيق بين ما لدينا من تراث وما نعاصره من حضارة مذهلة مع الاستيعاب الكامل له ومعرفة كيفية التعامل معه والاستفادة منه والتفاعل مع الواقع المُعاش والبيئة المحيطة بصورة متزنة دون إفراط أو تفريط .. فكيف يكون حال الدائرة حين ذاك..؟

 

إذًا .. بالعلم والتعلم نبلغ مراد ومفهوم ومعاني؛ بل حتى مضمون أي شيء من حولنا دون المساس بجوهرنا الأصيل؛ فلنرتقي بالثقافة في أجمل حُللها من أجل غدٍ مشرق تعم بهجته وسروره على الجميع.

Leave A Reply

Your email address will not be published.