الهندسة الاجتماعية وعلاقاتها بالتربية والتنشئة السياسية

0

الهندسة الاجتماعية وعلاقاتها بالتربية والتنشئة السياسية


بقلم: أ.د. خالد عبدالقادر منصور التومي،

 

استطاعت المناهج الحديثة للتفكير والبحث، وأهمها المناهج الوظيفية والنُظمية والبنيوية، أن تحسم شأن الجدل القائم حول الطبيعة التكوينية للأنظمة الكلية العامة في شتى أشكالها النظرية المجردة والعملية الحية، إذ أثبتت منجزات هذه المناهج ونتائج استخدامها في الدراسات الطبيعية والاجتماعية “أن أي نظام كامل شامل سواءً أكان ماديًا حسيًا أو نظريًا مجردًا، طبيعيًا كان أو اجتماعيًا، عادةً ما يتكون في أساسه من مجموعة مترابطة ومتفاعلة ومتكاملة من الأنظمة الفرعية وأنشطتها الوظيفية المتخصصة وعلاقاتها الارتباطية”، ومرد ذلك؛ إلى أن الخصائص التكوينية والوظيفية والتفاعلية لمثل هذا النظام الكلي الشامل من شأنها أن تعكس المجموع العام المتفاعل لأنظمته الفرعية ومكوناتها وعلاقاتها ووظائفها.

 

بهذا .. انعكست تلك النتائج في معالجة شأن التربية والتنشئة في علاقاتهما بالهندسة الاجتماعية؛ كمفاهيم نظرية كلية ونشاطات تطبيقية عامة، إذ تنقسم إلى مفاهيم نظرية جزئية وأنشطة تطبيقية خاصة، بحيث يختص كل مفهوم نظري جزئي ونشاط تطبيقي خاص منها بتكوين الإنسان معرفيًا وقيميًا، وتأهيله علميًا وسلوكيًا في جانب من جوانب حياته، بما يضمن توافقه وانسجامه وتفاعله الإيجابي من أحد الأنظمة الفرعية المتخصصة ضمن النظام الاجتماعي العام.

 

وبما أن المجموع الكلي المتفاعل لتوافقات الإنسان وانسجاماته الناتجة عن عمليات التربية والتنشئة وصولاً إلى الهندسة الاجتماعية الجزئية الخاصة به، تتحقق للإنسان الهندسة الاجتماعية المتصلة بالتربية والتنشئة الكلية العامة التي تُؤمن له التوافق والانسجام مع نظامه الاجتماعي الكلي العام، ومن ثم؛ تؤهله للتفاعل معه “نظامه الكلي” إيجابيًا على المستويين الفرعي المتخصص والكلي العام.

 

وحيث أن لكل نظام طبيعي أو اجتماعي عام، مطلبًا يكمن في أهمهما “الاستقرار والاستمرار”، فمن الطبيعي أن يكون ذات الشأن بالنسبة لكل الأنظمة الفرعية المتخصصة التي تتكون منها الأنظمة العامة “الطبيعية منها والاجتماعية على حدٍ سواء”، هذا؛ ليكون حال النظام السياسي حال باقي الأنظمة الاجتماعية الفرعية في إطار النظام الاجتماعي العام، ذلك من حيث حاجته وحاجتها للسعي لضمان استقرارها واستمرارها دائمًا وفي كل حال، هذا وفقًا لِما ورد عن “أ.د. ديفيد إيستون” في كتابه المدخلات والمخرجات لتحليل النُظم السياسية “أن عدم وجود قانون طبيعي ولا فوق طبيعي قادر على خلق قانون اجتماعي عام، ولا قادر على ضمان استقرار واستمرار الأنظمة الاجتماعية المتنوعة تلقائيًا، بما في ذلك السياسية منها، الأمر الذي يفرض على كل أشكال هذه الأنظمة وأنواعها أن تعمل على ضمان مطلبي الاستقرار والاستمرار لنفسها، مع توفير شروطهما التي تقف في مقدمتها شرط تلقين كل أفراد المجتمع أفقيًا وأجياله وطبقاته عموديًا” للاعتقاد بصواب هذه الأنظمة وضرورة حمايتها ولزوم التعاطي معها إيجابيًا.

 

لهذا .. نجد أن جميع الأنظمة السياسية تحاول تخليد هياكلها وثقافاتها عبر الزمن، إذ أنها تقوم بذلك عبر مؤثرات “التنشئة السياسية” حديثًا، وإنما قبل ذلك كانت تقوم بذلك عبر التربية، وهي التسمية القديمة للعملية المسئولة عن هندسة الخصائص الاجتماعية الفردية والاجتماعية العامة؛ ليحل مصطلح “التنشئة السياسية” محل مصطلح “التربية السياسية” في العقد الثالث من القرن العشرين، كما أن تعريف “التنشئة السياسية” بمفهومها البسيط، بأنها: دراسة سيكولوجية السلوك الإنساني .. بمعنى تعلم الفرد للأنماط الاجتماعية بواسطة مختلف المؤسسات الاجتماعية لمساعدته على التعايش مع مجتمعه سلوكيًا ونفسيًا، أو بمعنى أخر؛ التلقين المتعمد للمعلومات والقيم والسلوكيات السياسية بواسطة وكلاء مسئولين عن ذلك رسميًا، مثل؛ تعليم الاتجاهات الاجتماعية والخصائص الشخصية الوثيقة الصلة بالسياسة، كما أن للتنشئة السياسية مستويين، وهما على النحو التالي سرده تباعًا:

 

المستوى السياسي الفردي: تلك العمليات التي يكتسب الفرد من خلالها توجهاته السياسية الخاصة، كـ معارفه، ومشاعره، وتقييماته لبيئته ومحيطه السياسي.

 

المستوى السياسي الجماعي: تلك العملة التي يكتسب المواطنون من خلالها وجهات نظرهم السياسية، والتي يترتب عنها تجمع مجموعة من النتائج لها أثرها على الحياة السياسية لأمةٍ ما.

 

بهذا .. يتجلى المفهوم الشامل لهذه التنشئة، والذي يجمع بين هذين المستويين؛ جاعلاً من “التنشئة السياسية” أن تتخذ شكلاً خاصًا من أشكال ظاهرة التنشئة العامة، والمتمثلة في ما تنقله قنوات السياسة إلى الفرد واستجاباته لها وتنميته لقدراته الذاتية، وبالتدريج وصولاً إلى عموم المجتمع، وهي تلك العملية التي عادةً ما يستخدمها النظام السياسي لتعليم جيله الناشئ سياسيًا، وذلك بنقل بعض من تراثه السياسي عن طريق الوعي أو الحدس إلى أعضاء المجتمع البالغين، أو العمل على خلق تراث جديد لهم حتى يتمكن النظام السياسي الذي يشهد مرحلة تحول جدية من توقع التأييد له مستقبلاً، بمعنى أنها؛ تلك العملية التي يتم بواسطتها نقل المجتمع لثقافته السياسية من جيل إلى أخر، ويكون ذلك عبر مسارين، وهما على النحو التالي سرده تباعًا:

 

الأول: ذو بُعد عمودي “سيرورة ترسيخ المعتقدات والتمثلات المتعلقة بالسلطة”.

 

الثاني: ذو بُعد أفقي “عبر مجموعات الانتماء”

 

إذًا .. التنشئة السياسية؛ هي عملية تدريجية يكتسب الفرد بواسطتها هويته الشخصية التي تسمح له بالتعبير عن ذاته وقضاء مطالبه بالطريقة المناسبة له، وهو في ذاته المؤشر الذي عادةً ما يستدعي تعديل الثقافة السياسية السائدة في مجتمع ما، أو خلق ثقافة سياسية جديدة تراها النخبة السياسية ضرورية للعبور بالمجتمع من التخلف إلى التقدم؛ في عملية تفاعلية مركبة تقوم فيها تلك النخبة السياسية بتعليم، وتلقين، ونقل الأفكار والقيم والسلوكيات السياسية إلى أفراد وجماعات مجتمعاتها، مُحددًا منها ما يُعلّمونه لهم كمًا وكيفًا وزمنًا ووسيلةً وأسلوبًا، يُعيدون به وفيه صياغة وفهم وتطبيق ما تعلموه وتلقنوه وفقًا لقدراتهم وخصائصهم الموروثة ومعارفهم وتجاربهم وخبراتهم المكتسبة، بما يجعل من التنشئة السياسية أن تكون عملية تفاعلية “نظام اجتماعي + نظام سياسي” تختلف مكتسباتهم منها واستجاباتهم لها جزئيًا أو كليًا من شخص إلى آخر، وأيضًا في الشخص الواحد من حالةٍ لأخرى ومن وقتٍ لآخر.

 

وبما أن النظامين الاجتماعي والسياسي في علاقة انسجام وتكامل كأداة للحفاظ على الثقافة السياسية السائدة أو المستحدثة في المجتمع والمؤيدة للنظام السياسي؛ فإن النظامين يكونا أداةً للتنمية السياسية المفتوحة على التوجهات والاحتمالات كلها، إذ تصب هذه التنمية في صناعة السياسية للفرد والمجتمع عبر صناعة أو إعادة صناعة الثقافة السياسية، دون أن يعني ذلك بالضرورة صناعة أو إعادة صناعة هذه الثقافة بطريقة تطابقية استنساخية بلا تعديل أو تغيير، إذ تفرض حتمية قانون التغيير الاجتماعي “تغيرًا موازيًا ومساويًا” في التنشئة السياسية بما يناسب التغيرات الجزئية والكلية الحادثة في الحياتين الاجتماعية والسياسية، الأمر الذي بات ملحوظًا ومؤكدًا في المجتمعات الحديثة، بل أصبح حتميًا ومستمرًا ومتزايدًا في المجتمعات المعاصرة، هذا؛ بفعل ما تعيشه تلك المجتمعات من مؤثرات السيولة والاتساع والكثافة والتداولية المعلوماتية، ومن ثم؛ فقد باتت التنشئتين الاجتماعية والسياسية مُلزمتين بصناعة أو إعادة صناعة الثقافة السياسية للمجتمع بالقدر المناسب من التغيير اللازم لضمان استمرار وتطور قدرة هذه الثقافة والتنشئة وفاعليتهما بما يناسب حجم وطبيعة التغيرات الاجتماعية والسياسية التي تشهدها الحياة المعاصرة.

 

ولما كانت تلك الأنظمة السياسية تدّعي في المجتمعات كلها، ارتباطها بأنظمتها الاجتماعية، وانبثاقها منها، وتعبيرها عنها؛ فإن ذلك عادةً ما يفترض ويستدعي قدرًا من الانسجام والتكامل بين التنشئتين “الاجتماعية والسياسية” في هذه المجتمعات، وذلك بأن تكون التنشئة السياسية جزءًا من التنشئة الاجتماعية، متوافقًا معها، ومُتممًا لها، وتكون الخصائص العامة للتنشئة الاجتماعية حاضرةً وفاعلةً في التنشئة السياسية؛ ليتبلور مصطلح “الهندسة الاجتماعية”.

 

إذًا .. الهندسة الاجتماعية: هي عملية انسجام وتكامل الثقافتين السياسيتين الفردية والاجتماعية، تأسيسًا لانسجام وتكامل السلوكيين السياسيين الفردي والاجتماعي؛ لتُكون التنشئة السياسية في المجتمعات الديمقراطية، تنشئةً ديمقراطية تستهدف صناعة مواطنين ديمقراطيين، تنشئةً تعمل على تكيف أو تكييف الفرد، ومن ثم المجتمع مع نظامه السياسي، وانتمائه له، وتفاعله معه ايجابيًا، عبر تزويد الفرد والمجتمع بالحمولة الفكرية والقيمية والسلوكية للثقافتين الاجتماعية والسياسية بالشكل الذي يجعل منها المُحدد الأساسي لأفعال وردود الأفعال السياسية “السلبية أو الإيجابية” على المستويين الفردي والاجتماعي.

 

ختامًا .. نتوصل إلى وجود علاقة انسجام وتكامل بين الهندسة الاجتماعية والتربية والتنشئة السياسية، بيد أن الهندسة الاجتماعية تجمع بين عمليتي التربية الاجتماعية ذات المضامين السياسية العامة غير المباشرة، والتنشئة السياسية ذات المضامين السياسية الخاصة المباشرة، لتحقق توريث الثقافة السياسية والاجتماعية ذات الأبعاد والانعكاسات السياسية للأجيال الجديدة؛ فتُكون عملية سياسية مستمرة ودائمة.

Leave A Reply

Your email address will not be published.