شبشوب الذي لم يكبر  ذكرى الكشباطي

0

 

شبشوب الذي لم يكبر  ذكرى الكشباطي

قصّة قصيرة
تثير حفيظته قشور الدّهان المتدليّة من على السّقف، تنبّهه دائما إلى حاله، فيخاف أن يسقط بعض منها على عينه، ولا يملك القدرة على إبعادها.

ذلك العنكبوت الّلعين يراه يكبر ويتضخّم جسمه يوما بعد آخر، يلمحه يتنقّل بحرية هنا وهناك، يبني بيتا في هذه الزاوية ثم يعود ليكمل آخرا في الزاوية المقابلة.

ماذا لو أخطأ الخطو مرة واحدة وهوى مباشرة في فمه المفتوح فلن يملك القدرة على بصقه..؟
ذلك الشق، يزداد اتساعا شهرا عن آخر، ومن المؤكد أنه سيكون مسربا جيدا لمياه الأمطار، فتغزو فراشه ولحافه البالي..

رائحة بوله، تتمدّد من حوله وتهيج، فتُهيّج من تحته تقرّحاته التى ما إن يشفى منها حتى تعاوده ثانية، فيشعر برغبة جامحة في حكّها، فتخونه أنامله ككل مرة، ولا يقوى على هرشها
ينشقّ الصمت فجأة عن هسهسة المفتاح وهو يشق طريقه إلى القفل، فيدرك أن القادم أمّه.
ينتفض قلبه، ويشعر فجأة بنسمة لطيفة تهبّ عليه وتخفّف عنه حمل ما يحسّه.
سرعان ما يدنو منه ظلّها، فيهنأ.

فبين يديها البرء كله، وبين ظلوعها الجنة بأسرها.
تطبع على جبينه قبلتها الحنون، تذهب وتعود محملة بإناء يحوي ماء دافئا، فتغيّر له، تطبّب قروحه، تعطّره، تمشّط له شعره، ثم تأتيه بطبق الشربة وتظل تزقّه كما تزقّ الحمامة فراخها، تلاعبه وتناغيه، بالضّبط، كما كان رضيعا تناغيه وهو لا يرغب من أمر الدنيا سوى ريح أمه.

تظل تقلبه ذات اليمين وذات الشّمال حتّى لا ينخر القاع عظمه.
تبتسم له واللّه وحده العالم بخوافي نفسها!
ترى رفاقه يزدادون عرضا وطولا، تراهم يشبّون عن الطوق فيفرون من أعشاش الطفولة إلى براح الشباب، فتنضح عيونهم اتقادا وشيطنة، بينما يزداد ابنها ضمورا وانكماشا. ..

سجدت ودعت الله سنينا أن يشفيه، وأن تدبّ فيه مجددا روح
الحياة، ثم لم تعد تدعو له بالشفاء، بل صارت تدعو ربها أن يطيل عمرها حتى لا يظل ابنها دون عائل ولا سند يرعاه.
كم يتمنى أن يبث لأمه ذات نفسه! أن يسألها عن القريب الذي ماعاد يسأل وعن الرفيق الذي ذهب وما آب، في الحين الذي غسلت هي يديها من القريب والغريب على حد السّواء.
************************************************،

عاد يومها من المدرسة في غير موعده، عيناه حمروان، وجبينه يتصفّد عرقا، بحث عن أمه فلم يجدها، فارتمى على الفراش خائر القوى، تنفضه الحمى نفضا.
كان السوق يومها مزدحما، فمنّت نفسها أن تعود إلى المنزل وقد باعت كل ما بقفتها من فطائر…
تأخرّت عن العودة فتأخرت عليه.

حمّى طرحته فراشا، وأتت على صحته حتى أقعدته سنوات من عمره.
************************************************
لكن ذلك اليوم، لم يكن يوما عاديّا، فقد فتحت لها الجنة بابها، فسمعته وهو يجاهد ثقله لسانه ويناديها..
لم تصدق أذنها، ألقت دلو الماء من بين يديها وطارت إليه، وعيونها تسرّح وديانها رغما عنها، فيفيض محجرها دمعا..
تسمع صوته، أيعقل أن يكون هذا صوته؟! .

يحرك يديه، أيعقل أن يحرّك يديه؟.كيف يحرك يديه ؟…يا رب هذه الأكوان، كيف؟
ألجمتها الصدمة، وقفت عند رأسه تتأمله، وبقوة هياج المفاجأة المثار في قلبها، زغزدت، زغردت ودمعها يفيض على صدرها وهوت عليه تقبّله، تحمد الله بلهوجة وتقبّله.

انطلقت إثر ذلك مرحلة العلاج الطبيعي من جديد، ونورالدين ابنها – برحمة من الله- يستجيب بسرعة، فتحرّرت عيناه من قيود السقف، ومن شقوقه وهواجسه، من نظرات العنكبوت اللعين، ومن دوامات الأسئلة التي حاوطته سنينا.

الآن صار قادرا على المشي، فما الذي سيفعله وقد كبر عن المدارس والمعاهد و شارف أنداده على التخرّج؟
حملته قدماه يوما إلى دار الشباب، هناك أين يمارس الأطفال والشباب هواياتهم من رسم، ورياضة وإذاعة ومسرح وغيرها من الهوايات الأخرى، فراح يتجول بين القاعات، إلى إن اقتحم نادي صناعة الماريونات؛ هناك، رأى بعض الدّمى تحدّق بالسّقف، مثله تماما حين كانت عيناه معلّقتين بالسّقف، رأى فيها نورالدّين ملقى كخشبة دون حراك أو فائدة، أحسّ أوجاعه القديمة كلّها وعاودته الحكة نفسها لتي كان تلازم آليته بفعل القروح، فاندفع نوح الدمى، يحرّكها، يقلّبها يبعد عينيها عن السقف ويصرخ:” لا بدّ لهذه الدمى أن تحيى، أن تتكلم، أن تفكر بصوت مثلما صرت أفكر بصوت…!”

صراخه أرعب كلّ الحاضرين سوى المؤطّر الذي بقي يحدّق فيه
بهدوء كبير ويتابع انفعالاته وجميع تحرّكاته من تحت عيون نظارته الغليظة، ثمّ دنى منه بلطف وقال بصوت ثابت هادئ:” ما رأيك لو أنك تحييها؟.. “

وراح يهب الدمى روحه، يضحكها ويبكيها، يسخر منها وتسخر منه، تنتقده وينتقدها..
تعلّم صناعتها، انعجن فيها، غدت صناعة الماريونات روحه الّتي تنبض بين جنبيه.

صار ينتقل بين المدارس، والجمعيات، يؤثّث التّظاهرات ولا يغيب عنها إلا نادرا وهو متخفي وراء ماريوناته، يبعث السّعادة ويلقّن عبرة، يمسح دمعة ويسكب عَبرة..
ازداد كرهه للنوم على ظهره، ولا ينظر أبدا إلى السّقف…

صنع “شبشوب” بشعر مجعّد مثل شعره، بأنف مفلطح مثل أنفه، بعينين واسعتين متهدلتين مثل عينيه، وجسم نحيل نحولة جسمه، فصار شبشوب الأقرب من كل الدّمى إلى نفسه.

تعلّم نورالدين لغات عدة، قرأ كثيرا فضرب في العلم بأسهم…

سنوات مرّت، وصار شبشوب أشهر من النار على العلم، صار المضحك المبكي، القريب من الصغير و الكبير والنّاقد الذي يهاب لسانه كل ذي نفوذ وسلطة.

كبر نورالدين وشبشوب لم يكبر!
كبر نورالدين وعاودته لسوء حظه نفس الحمـى، هذه المرة لم يجد أمّا لكي تداويه، لأن أمه قد رحلت، ولم يجد صديقا يقوم به ويواسيه ولا قريبا عند رحيله يبكيه.
وكعادة البلدان التي تنسى سريعا مبدعيها، نسى الناس نورالدين، نسوه حتى بعد رحيله لكنه لم ينسوا أبدا شبشوب…

شبشوب الذي بعد أن جاب مسارح البلاد من شرقها إلى غربها، بعد أن أفرح وأبكى، وطمأن وأرعب، عاد كأول عهده، صامتا أخرس عاجزا مقعدا، تحدّق عيناه في السقف في صمت شبيه بصمت الموتى، لا يحرك له لسان ولا يطرف له عين، بينما راح العنكبوت اللعين ينسج حوله بيته.
قصة مستوحاة من الواقع

Leave A Reply

Your email address will not be published.