الهندسة الاجتماعية وبُعدها الثقافي،

الهندسة الاجتماعية وبُعدها الثقافي،

0

الهندسة الاجتماعية وبُعدها الثقافي،

بقلم: أ.د. خالد عبدالقادر منصور التومي،

 

من واقع أن الطبيعة العاقلة للكائنات البشرية “تُنتج العلاقات لكي تعيش، وتبتكر على مدى وجودها سُبلاً جديدة للفعل والفكر؛ لتفكر وتعمل سواءً بالنسبة لبعضها البعض أو بالنسبة للطبيعة المحيطة بها، ومن ثم؛ فإن الكائنات البشرية هُم من ينتجون الثقافة ويصنعون التاريخ“.

 

إذ يرى عالم الأجناس والأثار الأمريكي “بيتر فارب” أن الثقافة “جزءً أساسي من سلوك أعضاء المجتمع لدرجة أن الأفراد عادةً ما يسلمون بها مُجاراةٌ، ويعتبرونها من قبيل تحصيل الحاصل”، وهذا ما يُفسر مصطلح “الصدمة الثقافية”، بمعنى أن يُفاجأ المرء عند وصوله إلى بلاد غريبة بأن ما يفترضه الناس هناك، يختلف اختلافًا كبيرًا عن الافتراضات الراسخة في ذهنه والتي تعوّد عليها.

 

الأمر الذي يجعل من الإنسان العاقل كائنًا ثقافيًا بقدر ما هو كائنًا اجتماعيًا؛ بهذا تكون الثقافة الإنسانية ظاهرة اجتماعية، بيد أن الثقافة لا توجد إلا بوجود المجتمع، وأيضًا المجتمع لا يقوم ولا يبقى إلا بالثقافة، ومن ثم؛ تعتمد الثقافة على وجود المجتمع؛ لنجدها تمد المجتمع بالأدوات اللازمة لإطراد الحياة فيه، إذ لا فرق في ذلك بين الثقافة البدائية والحديثة.

 

لذلك نجد أن الثقافة توصف بأنها “فوق الفردية”، بمعنى أنها ليست نتاج فرد أو بضعة أفراد ولا جيل أو بضعة أجيال، بل هي نتاج تطور المجتمعات، إذ تكمن قدرة الإنسان على إنتاج الثقافة وتطويرها وتعديلها وتداولها وتناقلها في تمتعه بمَلَكَة طبيعية سابقةً على مَلَكَة البرمجة لتعلم “قدرةً ما بذاتها”، لأن الجينات هي عادةً ما تُحدد قدرة الإنسان على التعلم، وترسم له حدودًا قد تتسع أو تضيق، لِما يمكنه وما لا يمكنه تعلمه.

 

الأمر الذي يجعل من الثقافة كيانًا يدخل في هندسة المجتمعات، إذ يجتمع فيه الفكر والسلوك والأدوار الفردية والجماعية، ويتسم بدرجةً من الضرورة والأهمية والاتساق والتراكم والتغير والاكتساب، والقدرة على تحديد نمط الحياة الإنسانية، بمعنى “تغيره حين تتغير“.

 

كما أن الشخصية الفردية التي تُنشأ الشخصية الاجتماعية من مجموع سماتها العامة المشتركة “لا تُفسر هنا بخاصيات بيولوجية، بل تُفسر بالنموذج الثقافي الخاص بمجتمع مُعين والذي يُحدد تربية الطفل”، بقدر ما يتحدد هذا النموذج الثقافي المحدد للشخصيتين الفردية والاجتماعية بهندسته الاجتماعية أيضًا عبر تربيته؛ تلك الصيرورة التي أسماها علماء الأنثروبولوجيا “الترسيخ الثقافي“.

 

ختامًا .. نخلص إلى أن الثقافة تتضمن جُملة معارف الإنسان، ومن ثم المجتمع، وأفكاره وقيمه وسلوكياته ونتاجاته الفكرية والعملية المتجسدة في شكل رموز عن خصائصه، وتستجيب لاحتياجاته، وتحقق أهدافه، وتكوّن أنماطه الشخصية الأساسية المتعددة والمتنوعة، بهذا تكون الثقافة المحتوى العميق المؤسس لهندسة المجتمعات، ومن ثم؛ تكون هذه الهندسة الموجه والمحرك الرئيس لتسييس هذه أو تلك المجتمعات، ومن هنا؛ تُعتبر الثقافة أداةً للسياسة، كما تُعتبر من المنافع الاجتماعية التي تعمل الدولة على رعايتها، بهذا أصبحت الثقافة جزءً أصيلاً في هندسة المجتمعات وقسمًا من السياسة، بيد أن السياسة كانت ولا زالت منشطًا يُمارس داخل ثقافةً ما وبين مُمثلي ثقافات شَتَّى.

 

هذا .. بأن الثقافة تُعد كمرادفًا للتربية، أو نوعًا من التربية الأخلاقية، تستخدمه الدولة لصياغة مواطنيها بما يُلائم شروط المواطنة السياسية ومتطلباتها، وإذا كانت الوظيفة الأساس للهندسة الاجتماعية هي صناعة الخصائص الإنسانية للفرد والمجتمع؛ فإن المضمون الأساس لصناعة الخصائص الإنسانية بالهندسة الاجتماعية هو الثقافة.

Leave A Reply

Your email address will not be published.