“الطّفل الباكي” بقلم/ مريم عبد الجواد

0

“الطّفل الباكي” بقلم/ مريم عبد الجواد

 

 

أيّ حرب خاسرة يخوضها الانسان؟

أي شتات خلق منه هذا الكائن المختنق المتخبّط في رماد ثوبه المقدس و كم ستخدعنا أنفسنا بعد؟

 سخرية مقيتة أن يسكن المرء مع عدوّه في ذات الجسد 

أن يحمل نقيضه في داخله كجنين يأبى أن يُجهض..

نمت و أنا أجترّ أفكاري بمرارة..

في تلك الليلة راودني حلم أنّني أعمى أو ربّما كنت محبوسا في باطن الأرض. تجمدت أطرافي و تسلل برد جارح الى داخلي يضغط على أحشائي و يمزقها ثم صعد كالسهم نحو رأسي حيث يكمن ذاك المرض الخبيث الذي عانيت منه منذ طفولتي،

عقلي.

كنت مذعورا من الظلمة الحالكة التي تداعب وجهي و تغرقه في أحضانها كعاشقة متملّكة. خطر لي أن أقوم بحركات عشوائية كي أعرف ما اذا بقي شيء من الحياة في هذا الجسد لكنني تفاجئت أنني أتحرك حركة عشوائية غير تلك التي أعتزمت القيام بها..

حاولت الاستناد الى المنطق كعادتي دائما غير أنني شعرت أن كل فكرة اجمّعها بعناء تهوي مدوّية كأنها قارورة زجاجيّة.. أمسكت برأسي كي أحد من الضجيج الذي سببه هذا السقوط..كم أتمنى أن يصالحني يوما هذا العقل كم عانيت كي نتّحد و كم أهلكني..

هدأ روعي بعد صمت ساد طويلا بيني و بين نفسي. كنت أثبت نظري في الفراغ محاولا تجزيئه علّني أخفًف من شموليّته المخيفة. “على الأقل لا نور هنا” قلت في نفسي قبل أن أنتبه الى غرابة ما صرّحت به.

اه، نعم لا نور ينبعث فجأة من قلب هذا السّواد ليتلاعب بأملي و يسخر منه. كنت غارقا في الظّلام حتى اعتقدت أنني متماهٍ معه تماما..جميل هذا التناغم بل رائع أن أحظى ببعض السّكينة دون أن تتداخل الأشياء و تتعقّد من تلقاء نفسها..فقط أنا و ظلام دامس، كلانا فارغ و كلانا مستعدّ لعناق سرمديّ تنتهي فيه الأشكال و مسمّياتها..

شعرت أن هذه الظّلمة قد حرّرت بصيرتي و جعلتني اشفق على رجل الدين و أنا أراه يغرق في كرسيّه الذّهبي تدريجيّا و أغفر لذلك الدّاعية السّياسي و أنا أشاهد لسانه يطلق فحيحا خافتا قبل أن يلتفّ بعنف حول عنقه كما لبثت بعضا من الزّمن أراقب أرضا كريمة جادت بكلّ ما تملك من خيرات بها قوم يحملون أوعيتهم الفارغة و هم يربطون أحزمة جلديّة على بطونهم الخاوية و كلّما امتدّت يد أحدهم الى الطّعام هاج القوم و شرعوا بتكسير الأوعية على رؤوس بعضهم حتى لتظنّهم قردة أو صنفا غريبا لا يمكن ان يكون بشريّا..

عادت المشاهد تتغيّر بسرعة حتّى توقفت عند طفل لا يتعدّى السّادسة. كان يقبع وحيدا في زاوية لا تكاد تتّسع له. بدا مضطربا و خائفا و كانت كلماته تختنق رعبا في حلقه.. وجدتني فجأة أرتعش غضبا امام بكائه الصّامت ثم سلّمت نفسي لنحيب هستيري طويل، نحيب شعرت معه أن قلبي قد ينشقّ في اي لحظة من شدّة الانفعال. انصهرت بجميع جوارحي في ذلك البكاء الأليم حتى شعرت أنّني أنسلخ بشدّة و أرتطم ارتطاما عنيفا بسطح الأرض و صوت عميق يصيح بي” حرّر هذا الطفل من معاناته و ستتحرّر بدورك، لن تغفر و انت لازلت تغتسل بدموعه”

استيقظت فزعا من هذا الحلم الغريب و قد تبين لي أنني كنت ابكي بكاء حارقا لفترة طويلة. بعد قليل كنت أستعيد مشاهدا ممّا رأيته في الحلم و أنا اجلس في مكتبي الذي بدا لي فجأة أشبه بقبر أدفن فيه سنوات عمري، غير أنّه قبر مضيء و مرفّه الى درجة ما.

Leave A Reply

Your email address will not be published.