ابن همٍّ طويلٍ منذ صيحتي

ابن همٍّ طويلٍ منذ صيحتي

0

ابن همٍّ طويلٍ منذ صيحتي
بقلم/ عبد اللطيف رعري

خُيِّلَ لي
وأنا على متن دهشتي
محاطاً بأقمار من فضَّة شعّت نوراً
أنِّي أطرق كرسيّ المعتوهِ
ليحكم أبدية الأبدِ..
أكبّل الأفق بسلاسل الكلمات
وأدثّرُه بالصور ..
باركت لنفسي صدق الرؤيا وبدأت طقوس النبوءة..
لكن صمت أبي ظلَّ آية،،
انا واحد من ثوار القصيدة
لا أخفيها ظمأ عيني ولا رعشة الأسر..
أنا آخر المشردين
لكني أحضن القمر في صدري
فلتعذرني الملائكة على سخائي وإن سقطت أصابعي في قدرٍ من طين ..
وليعذرني شيطاني أنِّي ضيعت سبحتي في مكحلة الأعمى…
هنا تشيخ عزلتي وهنا ينقطع المطر..
هنا تنتهي محدوديتي في احتواء الخطر..
هنا أنا عنيدٌ من حجر..
بيميني ضجر
بيساري ضجر…
فلمن قلّص حجم أسمالي أعدهُ بانهيارِ الأمكنة في نهر عقيمٍ ..
وأقول له لا تشابه في العراء..
كما لاحظ له في نزع أنانيتي من سلّمِ المعتقدات..
أقول له لا عراء في التشابهِ..
هي فقط جريمتي أنِّي سليل الأحرار..
أتخطى ألسنة الشارع ..
علماً أن أسفل نعلي مسامير من حديد..
أرقِّصُ المتاهة فوق حبالِ المعنى وأضمُّ لصدري تآويل الفراغِ..
أرتق ثقب الروح
أصنعُ إكسير حياتي من ماءٍ وعسلٍ ٠٠٠٠٠
لزمنٍ طويلٍ
لطلَّةٍ أقصرَ مِنْ عُمرِي
لقلق قادمٍ
لنساءٍ تتزيَّن لغريبٍ
لضيقِ الزنزانة
لعرض أكتاف السجان ….
لحالات الفرار الفاشلة ..
لتقارير ركيكة ما صحَّ فيها غير الامضاء ..
وليعلم حضرة الشويش أنّ يده قصيرة مهما امتدت أبعد مِنْ حلقه
للامل المبثور..
لأصوات المفاتيح ..
واهتزاز القلب..
لزيارات تحمل أخبار القرحة..
غضب الشوارع..
اعتقالات ..
مدن تحترق..
إغتصابٌ ..
ردود فعلٍ بالمجانِ ..
وليعلم سيدي القاضي أنَّ الأحكامَ وإن باتت في ملك غيره هي من وحي الأزل..
هكذا كنت أتغنى بأشهر الميلاد وفي يدي براءتي
وهكذا كنت أبكي غزّةَ وبيت لحم..
أبكي بغداد وأبناء العم..
أبكي مراكش وأصل الهم ..
في هذه المرآةِ
على ظهر الشَّمس …
في منتهى سرابٍ منكسرٍ ..
تنحي لي وربما لغيري المجسّمات ،والاجساد العارية..
قوس قزح..
غضب الغابة ..
وأشياء من ممتلكات الآلهة
تحت محنة الهروب الطويل..
الموت فرصتي الأخيرة
وبيدي فقط ساعة تحفظ يوم الوفاة…
وكفني من رخيص الأكفانِ
هيكل عظمي في الانتظار يحفظ مجوهرات تخلد سرائر الامبراطور..
وفي عنقي قرابة جبلٍ من العنادِ
وبدلالها الخارق هذه الفراشات تمسحُ آثارَ البكاءِ..
ويصنع البحر وحده ملاذا للعدوان …
بينما تُغرسُ أظافرُ الشَّكِ في عينِ العبابِ..
قد يبكي طائرٌ زيَّفَهُ غدرُ الأنامِ ..
وقد يجرأ على الرَّحيلِ في صمتٍ مهانٍ ..
الإدانة ثابتة حين تنكسر الأقفاصُ
لكنْ براءة التغريدِ عالقة في حضرةِ القداسةِ…
أنا الواقف على أبواب المقابر وفي قبالتي طابوراًمن الأطياف الأعمى
والمهزوم
الأبكم
والمكلوم….
المشرد والمذموم
وفي قبضتي سيف مسلول ولا أحد من أعدائي يغادر رسم الجدران..
ً
لن أحمل دخان المرايا في كيس مثقوب وأدعي تلاف المكنسة
ولن أصل فناء الجنازة بوجهٍ صدأهُ حلمٌ مخثوم بالنسيان..
انا هكذا أعاندُ ..
جرَّبتُ حظي في النّار فلم احترقْ صوبت نبالي لعين الشّمس فلم تخترقْ
ودّعتُ قواربي على حافة الغرق لكنّها عادت بالموتى …
بأشلاء الموتى …
وبزمنٍ حزينٍ ..
عادت تسألني
من أخرس الآلهة ..؟
كم وشمة على صدور الأنبياء..؟
أطنبتُ في الكلامِ ،فلمّا مالتْ أخذتُ رفاتَ العشيرة الى حفر النجاة…
انا بالسهل المنيع عديمُ النظارة
جوطني ينتظرُ أتراب صلاح الدين والخطابي عبدالكريم..
ينتظرُ عمر وبن بركة وكل من سار في الدرب سنين…
يا هذا يا أنا الجريح أنفخْ في حقول الزعفران وعدْ واقفاً فالخريف يلوي الأعناق..
المارد بيننا مجرّد كومة حطب في فم ثعبان..
قتَّة شوكٍ في صدر عريان..
آهٍ دمار يشلُ قامتي
لم يعد محور الارض ولا السماء يدور فوق سبابتي..
صمت أبي أطول من عمره ..
لكنّه يبني قبوراً بمقاسات الأنا ويرصّعها بخيوط الميتافزيقا ويحلم بمزهرية في حديقة عرابِ المثالية..
أبي لا يؤثت حيِّزاً للجنّة حين يغرق في التأويل..
أبي لا يتحركُ وفقَ نُجوميّة فلكيّة ليصيِّر الكائن مكنوناً للمتعة..
أبي بزيِّ ملاك رحلْ …
أبي قبّل نجوم السَّماء باسماً فأراق دمَ كاهنٍ تعرَّى لغجريةٍ ترقصُ لحبيبٍ يحتضرُ..
أبي بعصاميته أخلَّ بناموس الكون فرحل كما يرحلُ الظّل..
في غيابه كنت أروضُ أظافري
على النّبشِ لأسخر من وجه قدري، وأرفع من شأن المتاهة لحساب الحمق المطلق..
لأبي صلاحيات لامتناهية لقلب المفاهيم المجردة الى خطابٍ فوق العادة ..
لا تنقصني قدسية البابا ،
لاتنقصني حيّله في صبغ الكلامِ ..
لكن أن ترجح طهرانية الروح على قلقها فاعلم أنّ لديك حظّ النّيات في النُشور تصدقاً بالعبادة…كان اشتهائي لطيّ المدى في جلباب من حرير مجرّد خدعة لكسر شوكة الماورائيات
لكن
خلطتي تطايرت ريحاً…
أبْطَلَها رذاذُ المطر
وغيَّمتها عتمةُ الخريفِ..

هكذا الأطيافُ حينَ أغزلُ ماءَ النَّهْرِ تختَفِي بينَ أصابعِي ولا تسمعُ لنوافذي غيْر وصلة بردٍ
وهكذا جربتُ مولد الحزنِ بعيداً عنِ الوطن …
وأوقعتُ أظافري في قلب الصَّخرة التِّي حركها عريس القبور
ومنِّي وإليَّ أمرِّرُ صلاحية البقاءِ…
بالقبول أحياناً وبالنفور..

جربت اصطياد الفريسة بغمزٍ وهمزٍ..
وأودعتُ الطرود في أكياس النسيان ..
وقلت لمرسول الهوى أنِّي رحلتُ، تركت العناوين والارقام …
تركت المفاتيح لصدأة الأبواب الموصدة..
للجدران..
آيات شيطانيَّة…
رسومات تشبه عرائي
أشعاراً من وحي العزّاب والمتمردين
والعاكفين في باب الله …
ياصاحبي لم تعد الأسرار بيننا ولم يعدِ الليل يسمعنا…
معطفي لا يخفي عنِّي خافية..
وحذائي الوحيد معارًًًٌ لمتحف الذكريات..
عمامتي لم تعد صالحة لإخفاء أخطائي
ابن العراء منذُ صيحتي..
ابن همٍ طويلٍ..
بين جنباتي تنمو حشائش سامّة ويسيلُ الدمُ أخثر من قدمي
حتَّى أنا عدمي لمّا غيَّبني قدرٌ يحكمُ قدري ..
مجبولٌ بلمسي للأشياء المتناهية لتصيرَ خيط دخانٍ ..
ببسط كفي على ظهر الموتى فيتحركُ اليبابُ زُلالاً تحت قدمي
ومن البياض أهتدي لفرزِ الكلمات..
هلاميٌّ تعصرني الأيادي القذرة..
سخر منِّي غراب يسكن ردمِ حائط الجيران منذ انهيار الأقبية ..
طار فلم يعدْ
سخر منِّي حتَّى سخر النَّملُ والحجرُ…
آلافُ الأمنياتِ زائفة…
طوابير من المنسيات في أيدي الحمقى تنعتني بقزم الوجود..
وأخرى تقرُّ لي بخواء قصبتي …
أعلامٌ ورايات بين أنياب الغربان
دجالٌ أنا ملفوفٌ بلغتي لم تستشرني المرايا حين كشفت عيوبي ولا أقلامي شدَّت بخطوي جهة النجاة….
أفٍ لكل المجازات أفٍ لأصل التّأويل أفٍ
ساحرٌ أمتلك ُ ضوابطَ النقش ِ على الحجرِ
بارعٌ ككلِّ الجداتِ في مراعاة الكلمات
وصفاتي محكمة
لكن تتصيّدني غفلتي فأعجنُ بيدي رغيف المرارة…
خيِّلَ لي أنَّ نصفَ المَسافَةِ مُجَرَّدَ قَشْعَةَ ضَوْءٍ ..
وبينَ الهدْأة وصرخَةَ الجَرِيحِ فلتةَ حُزْنٍ.آهٍ
مَا أحوجَنِي لضمادةٍ أسفلَ الرّأسِ لأحصُرَ آلامَ الجيَّاعِ ما أدهشني وأنا أطوفُ منَصَّةَ الوداعِ على ركبتين فارغتين …هذا الدخان لا يرسمُ طريقاً في خضم انتشاءي بالنَّارِ
إلاَّ ليعيدني لبدأتي الأولى..
طقوسي في الجنون
في الموت ..
في التَّجلي ..
في صدِّ المراهنةِ بسحلِ البديلِ المشروطِ
أفٍ لهذا الكون
أفٍ للغرابة وأشكال الشكوى
أفٍ لوجود لا يضمن لك حق التمرد
أعشق ما لا تعشقون
وأهيم كما لا تهيمون
أنا تقودني أقماري لبدايات الحلم
انا جدارٌ من رخامٍ تنمو بين تصدعاتي حكايات طويلة
نعم أنا حزين
لكن
لدي ما يكفي للهرب عبر بوابة البحر
لديّ أشعاري تنحت الورق
لديَّ ظلِّي يطاوعُ التيه بالنكران عين أطلُّ بها على نفسي
نعم تملكون ما أملك
لكن أملك ما لا تملكون…
أنا
عيِّنَة من أوراق الشَّجرِ..
قطرة من دم الآلهةِ..
مدَّين من ملح البحر…
عطر فجرٍ من تراب..
ضحكة صاخبة في غرفةٍ فارغةٍ …وقليلٌ من عرقِ النَّحلِ…
منها ما علق بسقف الكنائس
و ما حُمل في أسفل الأحذية حتَّى قلبِ الزنزانة ..
وما أدخِلَ بمكرٍ واحتيالٍ
وما استنسخ أوراقاً وأقلام …
وما تداولتهُ العاصفة أغنياتٌ صامتة
بين شجرةٍ وشجرة
بين صخرة وصخرة

نعم بالأمس
عدتُ بخفي من بين يدي الشيطان ..
فقالوا انت ساحر
عدتُ باحمرار وجهي رغم دمعِ المقابر..
فقالوا أنت كافر
عدْتُ بمُسْوَدَّتِي طافحةً بأخطاء طفولتِي
بخاتم عرَّافِ النِيَّاتِ …
فقالوا أنت فاجر
عُدْتُ بفانوسِ الدارِ المهجورةِ منطفِئً
لولاَ أصابعي المتلألئة ..
كنتُ سأفقد طريقي الى محجَّة الدلالِ..
فقالوا ما قالوا:
وكنتُ بتولُّعِي سأفقد سحنتي السمراء بين المنارة وآخرِ الأبوابِ
كلُّ هذا وما في الحسبان أنَّ الروحَ تنامُ بين ثنايا قميصي …
آهٍ لحيلتي
كلَّما قصصتُ لحيتي بات البومُ باكياً فوق مئذنتي…
وكلَّما أفرغتُ دَوَاتِي تكبَّدَ دمِي صخراً…

آه زحل غاضب منِّي والكواكب
الشهور لم تكتمل
وما بيني وبين الموتى
سوى فاصلٌ من نارٍ ..
زحلْ يستثني بياض الأغنيات من حتميَّةِ الظاهرِ والمُقدَّسِ…
زحلْ يخْلَعُ هالَتّهُ تحت َ أقدامِ مُومِسٍ أتْلَفَتْ رَكْبَها جَرَّاءَ الكَفِّ والتَّمنُّعِ
فباتَ عارِياً

فكيف أفلحُ بميلاد الخرافة
وما بحوزتي غير رشقةٍ ومدادٍ أحمر للكتابة…؟
كيف أطاوعني وما أحفظه انتهت صلاحيته منذ اعتناقي لذائذ الشهوات…؟
آهٍ منِّي
ومن تلعثمِي لآياتِ الظَّلالِ
سواء غنيت
أو بكيت أو شكيت
فلن أغيِّر الحال
فقط لأنِّي أفلاطوني الرّؤى أو لأني أحفظ تراثيل الأزمان..

طبعاً لست خمياءياً
لكني سلَّمتُ بقدسية صخرة الفلاسفة
لأنعم بسكرةِ الأبديةِ …
سلَّمتُ بالأحد أنَّا لا أحد..
وهيَّأت لنفسي قُداساً فيه عجبٌ عجب…
من قال عنِّي أبوه سندْ
ومن قال أمره للرّب حتى خلد..
ومن قال عابر سبيل خاب وتشرَّد..
لم أبالِ بقلق المدى …
لم انتبه كعادتي للون الأفق
لم أعتلِ شجرة محرَّمة…
لم أطعن فراشة خلف ظهرها..
لم تكن لي بصمة في السَّحْلِ والعذاب…
ما هجَّلتُ مُطاعاً في خلوتهِ ..
ولا أنكرتُ متعة خارج متعة.
كل الذين أعشقهم أضاعوا البسمة بحدو الحرائق والنكسات…
هجروا…
سجنوا …
إلتهم السقم أجسادهم …
تسرب الحمق الى امخاخهم ..
من مات مات
ومن ينتظر يده بطول الأمد
ترسم فراغاً في الجدران …
مات أبي ..
عن عمرٍ يناهزُ كل العذاب
أحبتي في الجنون
أنا آخر إخوتي في الظلام
ابن همٍ طويلٍ منذ صيحتي..

Leave A Reply

Your email address will not be published.