“غربة عن كل شيء”
بقلم/دونا بليلو.
ـ لم أشعر يوماً أن الأماكن تناسبني..
لطالما وجدتها تضيق بي حد الاختناق ، واغترب فيها حد البكاء..
أن المُتأخر عن الأحلام فاتني الركب كله ..
مشيت طويلاً ولم أصل..
عدوت آلاف المرات ، توقفت ، بكيت، استنجدت..
لم يحدث لي أي شيء ممَ تمنيت..
أحياناً أشعر أني مثل مقهى ممتلىء بالمنتظرين ..
أعرف جيداً حكايته..
حكاياتهم..
حكاياهم تُشبه أعينهم كثيراً..
أعرف رعشة اليد حينما يُسمك أحداً ما الكأس بعدما نزف كل دمه وهو يحاول أن يشد على يد كانت تحاول عنقه كمشنقة..
أعرف السهو الذي يسرق الجالسين قرب النوافذ يراقبون المارة ويعيشون معهم أو يُعيشونهم ماكان سبباً لجرح كبير..
في الطريق الذي أخطوه منذ زمن ولا أصل ، ثمة الكثير ممن يخطونه برفق وحذر وخوف، خوف النتيجة التي قضيت سنوات ألهث خلفها وكلما لاحظت ركضي تبددت في نقطة النهاية ..
وشجرة حزينة لوقوف شاب كهل في فيئها يحاول أن يكسب لقمة العيش المزوجة بالذل والموت المكرر..
أطفال يلعبون ويركضون باتجاه الحياة بنهمٍ كبير ، يتوقون للوصول إلى عمر الكبار ، ذلك العمر الذي لا تُرى فيه الرحمة إلا نادراً، ولا توجد بها أية مشاعر تبرهن أن الإنسانية موجودة …
حكايات كثيرة لا حد لها ولا حل..
وأنا أسير في طريق لا أدرك هل ستتغير من أجلي نهايته ؟
هل سألقى ما أُحب بعد كل هذا التوق ، ورغم معرفتي بأن كل توق إلى ما نُحب هلاك؟!
يستحضرني مقطع من قصيدة ألقاها رامي حنا في دور له في مسلسل زهرة النرجس يقول فيه:
لا شيء يعنيني هنا..!
أنا الشاعر المفصول من الأهل
ومن المدرسة والعمل..
والحب..
المفصول من نفسه ومم كتب
ويكتب.”
أشعر أنني بالفعل مفصول من كل شيء..
من الحياة..
والأحلام
حتى النهايات السعيدة..
حتى قلبك الذي ما عرف الحب يوماً
مفصولاً عنه..
لم أكن يوماً متصلاً به من الأساس..
يخيل إلي في هذه المدينة الخرقاء أن كل الوجوه هنا تشبهك..
كل الجهات تحتويك..
وكل التفاصيل تعرفك..
لكنها تجهلني تارةً وتنكرني تارةً..
مرَ زمن طويل..
ولا أشاء أن اوقظ جرحي النائم من التعب..
جرح ما مل يوماً نزيفه..
ما تعب ليلة أن يستفيق فيفيض ألماً ويُغشى عليه..
جرح رفض كل المبادىء وتحرر من كل الصراعات
ليفتح لك يديه قائلاً أنا هُنا..
جرحاً لا أرغب في الحديث عنه
لكنه يُصر أن يخرج في المرايا..
مع ملامح وجهي المتعبة..
مع النحول الغريب الذي استحلني
من البعد عن كل شيء
عن العالم، والأصدقاء..
جرحاً يجعلني أتساءل دائماً
كيف بمقدور إنسان من طين أن يسببَ ألماً لأحد؟!
كيف بمقدوره أن يتحول من عاشق فتي إلى طاغي ؟
وعرفت حينها أن الجواب لا يكمن هنا، إنما يكمن في خلجات نفسك وأعماقها
يكمن في الظلام الذي لا تُريد أن يقترب منه أحد كي لا يُسبب لك ألماً..
هو ذاته جرحٌ أُغشي عليه أيضاً من شدة التعب..
أتفكر فيما قرأت يوماً على لسان ويد أحلام مستغانمي..
فلا أجد شيئاً منصفاً سوى أنها تُشبهك بالأفكار..
إنها مثلك تستخدم فعل التحريض ضمن اللامعقول للتحرر من صراعات ومخاوف
نعرف جيداً أن عاقبتها ستكون قاتلة..
فتأتي إلى ذهني جملة لمصطفى صادق الرافعي:
“فإنِّي حينَ أجِدُك أفقِدُ اللُّغة، و حين أفقدُك أجدُها”
لا أعلم إلى أي حد تصف الجملة حقيقة المشهد ..
لكن يُقال أن أحياناً ما تكون الكتابة فعل حزن، فإن الكاتب يأخذ مادته من حزنه أو أحزان الآخرين..
ففي الفرح ننسى أن نكتب أسماءنا حتى ..
لربما هذا ما يحدث لي حينما نكون معاً ، حينما أكون محاطة بك كما لو أنك ظلي ..
ذلك الظل البعيد كل البعد عني والقريب إلي كأنه أنا ..
لكن هذه المرة تختلف، ثمة شيء انطفأ ، لم يعد هذا الحزن الثقيل الظل مادةّ للكتابة، ولا حتى نصاً مؤجل أقرأه وأدرك ما كان في نفسي حينها، لربما كان فقدان الحب أكثر قساوة من فقدان من سرقهم الموت مِنا وهنا وجه المقارنة يبدو وهماً ففي الموت ندرك أن الغائب لن يعود، لكننا في الحب نبقى على قيد الانتظار.