الفرحة الثَّالثة
تأليف : مجبر بن علية ــ الجزائر
عاش مطلع حياته معدوما محروما من كل شيء لكنَّه لم يكن لِيَحْفُلَ بذلك أو يعبأَ به طالما أن الله قد عَوَّضَهُ عن حرمانه ذاك بموفور الصِّحة وراحة البال التي كان محسودا عليهما من أترابه المرضى و المُعْتَلِّين ، لذا كان قانعا بمآله مزهوا بنفسه من غير تباهٍ أو فخور، وهو يحاول جاهدا أن يجعل من فاقته محطَّة انطلاق نحو الكسب الحلال والمجد المشروع ، وها هو بالفعل قد نجح في تحقيق أولى بشائر هذه الأمنيات حيث تَمَكَّنَ وهو ابن التَّاسعة عشرمن عمره أن يفتحَ دكانا متواضعا حتَّى وإن كان أغلب رأس ماله دينا في ذمة شريكه الذي يفوقه سِنًا وتجربة .
أُعْجِبَ الشَّريك بخصال الفتى ودماثة أخلاقه ففاتحه بأنَّه يرغبُ في تزويجه أكبر بناته الثَّلاث وسوف يمنحه الطًّابق العلوي من العمارة ليتَّخذه وزوجته سكنا إن وافق على ذلك .
لم يكنِ الرَّجل ليخفي عن الفتى نقائص ابنته وعيوبها ولعلَّ أبرزها كونها قد صارت بكماء منذ صباها نتيجة تعرُّضها لنوبة من الحمى التي داهمتها على حين غرة ، إذْ لم يكن من الميسورعليه أن ينفق عليها أويعالجها آنذاك فأضحتْ على الوضع الذي هي عليه الآن .
قَبِلَ الفتى عَرْضَ الشَّيخ بل صارمتحمسا له ومستعجلا إياه خصوصا بعد أن تَمَكَّنَ من معاينة الفتاة بحضور أهلها وذويها .
تَمَّتْ مراسيم الخطوبة و الزواج في أحسن الاحوال والضروف وها هو ذا رحم الفتاة تَدُبُّ فيه الحياة بعد قرانهما بشهرين .
في إحدى الزِّيَّارات الدورية التي كانت تقوم بها الزَّوجة كباقي النِّساء الحوامل لدى الأطباء تتبعا لحالتهن الصِّحية وتطورالأجنة لديهن أَشْعَرَتِ الطَّبيبةُ الأمَّ أن جنينها يعاني من مشكل صحي على مستوى رئته اليسرى ونصحتها بأن تتَّجه به إلى إحدى الدول الأروبية ذات الصيت في علاج مثل هذه الحالات .
قام الوالد بمساعدة صهره بجمع المبلغ المطلوب للرِّحلة والعلاج وتَمَّ ايفاد المريضة منفردة الى المستشفى المنصوح به لاستحالة قبول المرافقين لها في مثل هذه البعثات .
بعد ثلاثة شهور تلقى الأب مكالمة هاتفية من المستشفى يشعرهُ فيها بازدياد مولوده سليما معافى ولسوف يَتِمُّ ايفاده وأمَّه إلى بلدهما ريثما تستعيد والدته عافيتها وتستكمل نقاهتها و سيكون ذلك في غضون العشرة أيام القادمة .
أَصَرَّتِ الوالدة على مدير المستشفى ــ بطريقتها الخاصة ــ أن ينقلَ لأهلها هذا الخبرمجرَّدا دون أن يضيفَ له تفاصيلا أخرى ، فَلَبَّى لها المديررغبتها دون مساءلة أو نقاش .
كانت فرحة الأب و هو يتلقَّى هذه الأنباء السَّارة فرحتان : فرحة بمولوده الذي مَنَّى الله عليه بالشفاء وفرحة أخرى بدنو عودة زوجته إليه بعد شوق وغياب .
ثمانية أيام بعد هذه المكالمة تلقى الوالد رسالة مستعجلة من زوجته تُعْلِمُهُ فيها بأنَّها قد قَطَعَتْ تذكرة السَّفر وحَدَّدَتْ له فيها تاريخ نزولها بالمطارتحسبا للقائها وابنهما هناك ، و هاهو ذا الأب يَعُدُّ الوقت ويستعجله للقاء الحبيبين ، وما إن حلَّ اليوم الموعود حتَّى هَرَعَ للقائهما حسب الموعد المحدد بينهما آنفا .
لكن ما ان وطأتْ رجلاه أرض المطار حتَّى انّْتبه على صوت نسائي غير مألوف يَذْكُرُاسمه بطلاقة ويردِّدهُ بعذوبة واشتياق .
وفي لحظة خاطفة من لحظات هذا الذهول دُهِشَ الرَّجل وهو يرى صاحبة هذا الصَّوت الجميل تهرع إليه لتعانقه وترتمي في حضنه .
بَقِيَ الرَّجل مدهوشا مأخوذا بالموقف الذي يمرُّ به حتَّى أنَّه لم يعد يُمَيَّزُبين الاحتمالين : أحقا أنُّه يعيش الواقع أم أنَّه في دكَّانه يستجمع أطراف حلم جميل .
أخرجتِ الزَّوجةُ الصَّبِيَ من مهده الذي ركنته غير بعيد منها وسلَّمته لوالده الذي انهال عليه تقبيلا ، في حين راحتْ تشرح له وتخبره أن الله قد رزقها هي الأخرى بالشِّفاء من عاهتها بعد أن نجح الأطباء في تشخيص المرض وتَمَكَّنُوا من إعادة الصَّوت إلى حنجرتها بعد جلسات مكثفة من العلاج .